سنتحدث اليوم عن تاريخها لأنها واحدة من أجمل مدن العالم؛ فهي مدينة شابة إلى حد كبير مقارنة بالمدن التاريخية. في الواقع، يبلغ عمرها أكثر من ثلاثمائة عام بقليل. أصبحت المدينة رمزًا للجمال والثقافة وتاريخ روسيا خلال هذه الفترة القصيرة إلى حد ما. تأسست المدينة في 16 مايو 1703 بموجب مرسوم من الإمبراطور الروسي بطرس الأكبر؛ وفي فترة قصيرة جدًا من الزمن، أصبحت عاصمة الإمبراطورية الروسية بالإضافة إلى مركز ثقافي وروحي مهم للبلاد.
تاريخ سانت بطرسبرغ من التأسيس والنمو المبكر

كانت بداية سانت بطرسبرغ متواضعة، حيث نشأت كحصن يحمي الحدود وميناء بحري يطل على بحر البلطيق. لكن بفضل موقعها الاستراتيجي على ضفاف نهر نيفا، سرعان ما تحولت هذه المدينة الناشئة إلى قلب نابض بالتجارة والاقتصاد، يجذب إليها التجار والرحّاب من كل حدب وصوب. ومع مرور السنوات، بدأت ملامح المدينة تتشكل، وظهرت فيها معالم بارزة مثل دير ألكسندر نيفسكي، الذي لم يكن مجرد مبنى ديني، بل تحول إلى رمز للروحانية والإرث الثقافي.
وفي عام 1710، حدث تحول جذري آخر، عندما قررت العائلة المالكة نقل مقرها من موسكو إلى سانت بطرسبرغ، حاملة معها المكاتب الحكومية وأصحاب النفوذ. وهكذا، أصبحت المدينة الفتية عاصمة جديدة للإمبراطورية الروسية، تزينت بالقصور الفاخرة والحدائق الغنّاء، وتحولت إلى مركز للإشعاع الثقافي والسياسي، يجسد طموحات إمبراطورية شاسعة تتطلع إلى المستقبل
العصر الذهبي فى تاريخ سانت بطرسبرغ
تحت حكم إليزابيث الأولى، ابنة بطرس الأكبر، شهدت المدينة تطورًا معماريًا كبيرًا. تم استبدال الهياكل الخشبية القديمة بمباني حجرية فخمة، وتم تشييد العديد من القصور والكاتدرائيات التي لا تزال قائمة حتى اليوم. من أبرز هذه المباني قصر الشتاء وكاتدرائية سمولني، والتي تعتبر من أروع الأمثلة على العمارة الباروكية في روسيا.

في عهد كاترين الثانية، المعروفة باسم كاترين العظيمة، وصلت سانت بطرسبرغ إلى ذروة جمالها وازدهارها. تم بناء العديد من المعالم الشهيرة مثل القصر الشتوي وشارع نيفسكي بروسبكت والسدود الجرانيتية على طول الأنهار والقنوات. كما تم نصب تمثال الفارس البرونزي الشهير، الذي يمثل بطرس الأكبر، والذي أصبح رمزًا للمدينة.
التحديات والتحولات
عانت سانت بطرسبرغ من العديد من التحديات عبر تاريخها، بما في ذلك الغزو النابليوني في أوائل القرن التاسع عشر. ومع ذلك، استمرت المدينة في النمو والتطور، حيث تم بناء قصر ميخايلوفسكي ومسرح ألكسندرينسكي خلال هذه الفترة. بحلول نهاية القرن التاسع عشر، أصبحت سانت بطرسبرغ مدينة أوروبية حقيقية ومركزًا للصناعة والثقافة.
كانت الثورة التي اندلعت في الفترة من 1905 إلى 1907 ، والتي اندلعت شرارتها في أعقاب أحداث يوم الأحد الدامي، عندما أطلق الجنود النار على العمال المحتجين في ساحة القصر.
وردًا على هذه الثورة، تم إنشاء مجلس الدوما الروسي. وقد قوبلت هذه الثورة بحماس، ولكن الترحيب بها لم يدم طويلًا. فقد أدت حملة روسيا الفاشلة في الحرب العالمية الأولى إلى زيادة الاضطرابات الاجتماعية، وبحلول عام 1917 كان الوضع في المدينة (التي تسمى الآن بتروجراد) مزريًا حقًا.
فقد أضرب العمال، مما أدى إلى شلل المدينة. وحاول القيصر دون جدوى حل مجلس الدوما وإصدار الأمر للعمال بالعودة إلى العمل. وفي النهاية تنازل عن العرش،
وتم تشكيل حكومة مؤقتة، وشكل الاشتراكيون مجلسًا سوفييتيًا من العمال ونواب الجنود. واختار لينين بذكاء هذا الوقت للعودة من المنفى في سويسرا، واستقبله الفلاحون والعمال والجنود بحرارة. وسرعان ما جمع حزبه البلشفي (الأغلبية)، وفي أكتوبر (التقويم الجديد: نوفمبر) 1917،
وبعد العديد من المناورات خلف الكواليس، استولى السوفييت على السيطرة على الحكومة، التي انتقلت إلى موسكو في مارس 1918. توفي لينين في عام 1924 وتمت إعادة تسمية سانت بطرسبرغ باسم لينينغراد تكريماً له.
القرن العشرين والتغيرات السياسية
شهدت المدينة تغييرات جذرية في القرن العشرين. في عام 1914، تم تغيير اسمها إلى بتروجراد كرد فعل على المشاعر المعادية لألمانيا خلال الحرب العالمية الأولى. بعد الثورة البلشفية في عام 1917، فقدت المدينة مكانتها كعاصمة لصالح موسكو. في عام 1924، تم تغيير اسمها مرة أخرى إلى لينينغراد تكريمًا للزعيم الثوري فلاديمير لينين.

خلال الحرب العالمية الثانية، تعرضت لينينغراد لحصار طويل دام 900 يوم، مما تسبب في دمار هائل ومعاناة كبيرة لسكانها. ومع ذلك، تمكنت المدينة من الصمود والتعافي، وتم ترميمها بالكامل بحلول منتصف الخمسينيات.
العودة إلى الاسم الأصلي والنهضة الحديثة
في عام 1991، عادت المدينة إلى اسمها الأصلي، سانت بطرسبرغ. اليوم، تعد المدينة ثاني أهم مركز اقتصادي وعلمي وثقافي في روسيا بعد موسكو. تشتهر سانت بطرسبرغ بمعالمها التاريخية الفخمة، مثل متحف الإرميتاج وكاتدرائية القديس إسحاق، والتي تجذب ملايين السياح كل عام.
إن مدينة سانت بطرسبرغ الحديثة ، التي استعادت اسمها الأصلي في عام 1991، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ليست خالية من المشاكل. فالنمو الاقتصادي وحماس الأجيال الشابة يخفيان يأس آبائهم وأجدادهم، كما أن عظمة مباني المدينة، التي تم تجديدها لتعود إلى مجدها قبل الثورة، لا تتناسب بشكل مريح مع الأحياء الفقيرة المجاورة. ورغم ذلك فإن ماضي المدينة المتقلب وحاضرها الغامض يشكلان جزءاً من جاذبيتها للملايين من السائحين الذين يزورونها كل عام.
الخلاصة فى تاريخ سانت بطرسبرغ
سانت بطرسبرغ، تلك المدينة الساحرة التي تحمل بين طياتها تاريخًا غنيًا وحافلًا بالأحداث، تروي قصصًا لا تُنسى عن عظمة الماضي وحيوية الحاضر. تأسست على يد القيصر بطرس الأكبر، الذي حلم بمدينة تليق بعظمة روسيا، فجعل منها نافذة تطل على أوروبا، وقلبًا نابضًا بالثقافة والفنون.
عبر القرون، تحولت سانت بطرسبرغ من عاصمة للإمبراطورية الروسية إلى مسرح لأحداث تاريخية كبرى، تحملت خلالها الحروب والمحن، لكنها لم تفقد بريقها. ومع كل تحدٍ، نهضت من جديد، حاملة معها تراثًا ثقافيًا وعمرانيًا يخطف الأبصار.
اليوم، تقف سانت بطرسبرغ شامخة، كرمز للجمال والإبداع، حيث تلتقي القصور الفخمة بقنوات المياه الهادئة، وتتلاقى الأوبرا العريقة مع الحدائق الخضراء الوارفة. إنها مدينة خالدة، تظل شاهدة على عظمة التاريخ، وتستمر في إلهام كل من يزورها بجمالها الذي لا يُضاهى.